مناوبة في الإسعاف الجراحي ليوم واحد تعلّمك أن الإنسان لا يموت عندما يعلن جهاز المونيتور ذلك.
يرنّ الهاتف في وقت غير مناسب، فأغلقه على عجل بسبب الصّداع الذي لا يعرف طعمه إلا من يعاني من الجوع إلى النوم والراحة.
أتذمّر ممّن يتصلون ويسألون عني أكثر من اللازم، بل إني أصبحت بسبب حجم الضغط النفسي أنهر لهفتهم بجملة ” إذا ما كان حدا منكم عم يموت لا بقا تدقولي”.
أغلقت الهاتف وركضت إلى مريضتي في الإسعاف، الدّم يغطّي ملامحها وكأنها غارقة في دمائها “على الآخر”.
أصوات المرضى تتعالى بطريقة تجعلك تفقد صوابك، ثمّ يخترق صوت الصراخ صوت الطبيب وهو يفحص نبض السّباتي ويرمقني بنظرة خيبة:
“خالصة”.
سرت في جسدي نوبة قشعريرة، وبدأت أرجف لأول مرة بهذه الطريقة اللا إرادية الغير مسيطر عليها، ارتعشت وكأنّ هذه الكلمة سمّ ابتلعته مسامعي وراح يفتك بي على الفور.
ألا يمكننا أن نفعل شيئاً، فتحت كفّي راجية ألا تخونني يداي، إنّها على قيد الحياة، قلبها ينبض، وصرخت بصوت أكل الذعر نصف تفاحته ” أخبروا أطباء الجراحة بضرورة التوجه بشكل عاجل لغرفة العمليات الإسعافيّة.”
بعد ساعات من الجهد الجبّار الذي قام به أطباء الجراحة تم تخريج المريضة إلى العناية المشددة، وفي ذلك الوقت كان لديّ الفرصة للحديث مع ذويها، لكن يبدو أنّه لا أحد عرف بأمر الحادث بعد.
ومرّت أيّام ومازالت هذه المرأة وحيدة تصارع الموت في الداخل. جراحها طريّة والقطب التي امتدّت على طول خطّها النّاصف تحكي قصّة نجاة عجيبة وتقول بأن الإنسان لا يموت قبل بلوغ أجله حتى لو ألقى بنفسه إلى الموت.
يروعك منظر الدّم للمرّة الأولى، رغم أنّه سائل لزج عادي بلون أحمر لمّاع، ثمّ تعتاد ويصبح التعامل مع الدّماء عملك اليومي.
لم تكن المشكلة في لون الدّم ولا بقوامه اللزج، إن المرعب في الأمر أنّه يخرج من جسم بشري، ويدخلك في صراع تسابق فيه الزّمن من أجل وقف النّزيف لمنع حدوث الصّدمة فهذه هي مهمّتك كطبيب مناوب في الإسعاف الجراحي..
لكن ماذا لو عرفت أن الصدمة الحقيقية تحدث بسبب نزيف الروح؟
كنت أعدّ الثواني منتظرة انتهاء الجولة الصباحية في شعبة الجراحة العامّة.
بالنّسبة لك كشخص يقوم فقط بالتغيير على الجراح سيبدو الأمر هيّناً فأنت تلمس الجرح ولا تشعر به.
لكنني ربّما لمست أحد الجراح ذات ليلة واليوم شعرت به أكثر من اللازم، تلك المرأة الخمسينيّة نفسها التي جاءت بحادث سير الشهر الماضي، ركضت نحوها متلهّفة، قلّبت أوراق إضبارتها
وبفضول يغلب دور الطبيب الذي بداخلي، سألتها عن حالتها واستأنفت:
أين أهلك عائلتك، ألم يأتي أحد لزيارتك؟
لتردّ بصوت ابتلعت نغمته كهوف الوحدة ورمَت أصداءه:
ليس لديّ أحد، وبعد حديث قصير فهمت أنّها تزوّجت رجلاً بدون رضى عائلتها فلُفِظت.
وأمّا ذلك الرّجل الذي منحته حبّها وإخلاصها وعاشت في انتظاره لسنوات تزوّج من أخرى لأنّها عاقر ولن تنجب له الأولاد.
كانت تبكي بصوت خافت كأنّها معتادة على حزنها الوجيع، وأخاف وأنا أغيّر لها على الجراح أن تتألّم، لتردّ عليّ بأن الألم ليس في جسدها بل في روحها.
سيئة أنا في المواساة تأكل الغصّات لساني، قلت لها لقد نجوتِ من الموت بأعجوبة لابدّ أنّ هناك شيء ما في هذه الحياة مازال ينتظرك.
لكنّها ردّت بجملة واحدة فقط جعلت عظامي ترجف:
إنّ الإنسان لا يموت عندما ينتهي عمره، بل إنّه يموت عندما ينسى، عندما تنساه العائلة والرّفاق ويهجره الأحبّة، يموت الإنسان ويصبح غير مرأي وهو على قيد الحياة، وأنا ميّتة منذ سنوات طويلة.
خرجت من عندها مذعورة عاودت الاتّصال بعائلتي بإلحاح، ردّت أمّي متلهّفة فهي غير معتادة على الاتّصالات، لقد خافت أن يكون هناك خطب ما، نعم فأنا نفسي كنت قد أخبرتها بألا تتصل بي إلا عندما يموت أحد.
خرجت من عندها أعيد حساب معادلة عمر ضائع يذهب جلّه هنا في إعادة المرضى إلى أحبّتهم، مقابل هجراننا نحن أحبّتنا وحياتنا في الخارج.
بدأت تسوء حالتها يوماً بعد آخر، ربّما كان ذلك بسبب انهيار جهاز مناعتها النّفسي، فهناك خيط رفيع واصل بين أمراض الجسد والرّوح لا يمكن لأحد قطعه.
كنت أتناول طعام الغداء حين توجّه نحوي مقيم الجراحة العامّة مخبراً بأنّ ” وَحِيِدِة” توفّيت، وهو بالطبع ليس اسمها بل اللقب الذي أطلقوه عليها في الشعبة.
ركضت إليها والدّموع تغسل بلّورة عيني، وقفت في حضرة غيابها أتلقَّن درساً مخيفاً عن النسيان، يداي عاجزة وعيوني ترقب جثمانها بقلّة حيلة
وصوت ما.. ينده من جهتها:
“أنا انتهيتُ.. فماذا تريدُ عيناك منّي”
د. مايا معلا
(سماعة حكيم)
من أجمل ما قرأت
قصة او واقع !! السرد عبقري والموت كمان عبقري بطريقة اختيارو للاشخاص
الله يرحمها… اجمل كلام وإحساس بالأمان بوجود الأهل والأحباب
ماشاالله لدى الدكتورة اسلوب جميل وروح شفافة