الجيل الثاني من التغذية الراجعة
تعليم جديد، أفكار تعليمية جديدة، تعليم مختلف: الجيل الثاني من التغذية الراجعة التعليم في وزارة التربية والتعليم العالي
#الجيل #الثاني #من #التغذية #الراجعة
هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة مقالات للدكتور أيمن أصلان تُنشر حصريا على صفحات الموقع.
لا تعدو عملية التدريس أن تكون فعلا ورد فعل، وبينهما معلومات تتحكم في نتائج ذلك وتوجهه، ومن هنا تأتي التغذية الراجعة باعتبارها واحدة من أهم أدوات ضبط التعلم وتوجيهه، فإذا كان المتعلم هو من يقوم بالتعلم فإن المعلم هو مهندس البيئة التي تساعد المتعلم على حدوث التعلم وضمان اتجاهه نحو الهدف المخطط له، وكأن التغذية الراجعة تعمل بوصفها كشافًا ضوئيًا يسلط من خلاله المعلم الضوء على العمل الذي قام أو يقوم به المتعلم؛ لكي يستطيع رؤية ما يقوم به في صورة معلومات يقدمها له المعلم؛ ليستطيع أن يكون أحسن في المرات القادمة.
ولن نكون مبالغين إذا قلنا:
إن التغذية الراجعة تعمل ميكروسكوبًا مكبرًا يُمَكِّن المعلمُ من خلاله المتعلمَ من النظر في تفاصيل ما قام أو يقوم به، مما لم يكن له أن يُدْركها بعينه المجردة، ليستخدم المتعلم معلومات تلك التفاصيل الواردة في التغذية الراجعة في الإجابة عن الأسئلة التي تتردد في نفسه:
س: كيف يبقى على ما هو عليه من الأداء الجيد الذي تعلمه؟
س: كيف يكون أفضل فيما لم يحسن تعلمه؟
وسوف أتناول بإذن الله في هذا المقال و سلسلة المقالات التالية مفهوم التغذية الراجعة بشيء من التفصيل وسألقي الضوء عليه من زوايا مختلفة تجعل القارئ أعمق فهما له وأكثر قدرة على تطبيق مبادئه واستراتيجياته من خلال شرح نموذج مثلث التغذية الراجعة النابض في تقديم التغذية الراجعة و الذي يعتبر أحدث نموذج تربوي وتعليمي تناول هذا المفهوم من خلال تأصيل علمي عميق وأمثلة تطبيقية تأخذك من الفهم النظري إلى التطبيق العملي لتكتمل قدرتك وتنتقل من ممارس للتغذية الراجعة داخل البيئة الصفية إلى خبير متخصص في تصميم تغذية راجعة صفية تعزز التعلم وتعدل السلوك.
وفي هذا المقال سنلقي الضوء على:
أجيال التغذية الراجعة
“لا حياة بدون الإنترنت وشبكات الاتصال”، لا يشكك أحد في أن هذه المقولة تمثل واقعًا نعيشه الآن؛ إذ أصبح لهما تأثير في كافة تفاصيل حياتنا، ولقوة الحاجة لهما والإقبال الشديد عليهما فإنهما يتطوران بشكل مذهل ومتسارع، ولا نلبث أن نعتاد على تقنية حتى تأتي الأجيال بالأكثر حداثة منها، حيث تم الانتقال من شبكات الجيل الأولG1 إلى شبكات الجيل الخامسG5 مرورًا بالأجيال الثاني والثالث والرابع خلال حوالي 40 عامًا، لتتحول عمليات الاتصالات ونقل البيانات من الصعوبة إلى السهولة المفرطة بالنسبة للمستخدمين.
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للإنترنت وشبكات الاتصال، حيث التطور من جيل إلى جيل، ولكل جيل خصائصه وسماته ومميزاته التي تجعله أكثر مرونة وفاعلية من الجيل السابق له، فإنني لا أكون مبالغًا إن قلت بأن التغذية الراجعة لا تقل أهمية عن الإنترنت؛ فهي جزء من جميع تفاصيل حياتنا، وذلك لتنوعها بين لفظية وغير لفظية، وبين داخلية وخارجية، وبين فردية وجماعية، وبين……… مما يجعلها جزءًا أصيلًا في حياتنا وبمسميات مختلفة، فالشركات تترقب ردود أفعال عملائها على منتجاتها لتطور منها وتلبي احتياجاتهم، بل إن الأمر تجاوز حدود الأفراد والشركات إلى الدول، فأصبح لكل وزارة صناديق شكاوى أو مقترحات تتلقاها من المستفيدين منها؛ لتتخذ خطوات نحو أداء أفضل.
وإذا كان هذا هو حال التغذية الراجعة في فضاء حياتنا، فإنها أكثر أهمية وتأثيرًا داخل دورة حياة التعلم الصفي، فهي جزء من أي عملية تعلم، بل يمكن القول:
لا تعلم بلا تغذية راجعة.
تطور التغذية الراجعة
نتيجة للتأثير الشديد، والحاجة الملحة للتغذية الراجعة، فهي – مثلها مثل باقي الأشياء – تتطور بتطور الفلسفة التربوية وتطور حاجات أطراف عملية التعلم، بما يخدم المنظومة التربوية والتعليمية، ويجعلها أكثر قدرة على تحقيق غاياتها، ومن خلال عملي مديرًا لفريق إشرافي كبير يشرف على مئات المعلمين، ويراقب تعلم آلاف الطلاب داخل المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى دوراتي ومقالاتي وأبحاثي أستطيع أن أقول: إن هناك جيلين من التغذية الراجعة (هذا المصطلح خاص بي)، وهما كما يأتي:
الجيل الأول من التغذية الراجعة: التغذية الراجعة المتمركزة حول المعلم
بينما كانت مبادئ النظرية السلوكية في التعلم هي التي تسود البيئة التعليمية وتتحكم فيها وتقودها، وتتحكم في جميع عناصر العملية التعليمية والتربوية، ويتم تحكيم الممارسات التعليمية والتربوية وفق تلك المبادئ، حيث كان الطالب مجرد متلق سلبي للمعلومات التي يرسلها المعلم من خلال تعليم بنكي يعتمد على الحفظ والاستظهار، وكان التعليم متمركزًا حول المعلم في كل عملياته وممارساته، فكان هو مصدر المعلومات وناقلها، وهو من يحدد أهداف التعلم ويفرضها على جميع الطلاب، وكان الكل مطالبأ بتحقيق الأهداف نفسها خلال الزمن نفسه، ويتعرض للمحتوى ذاته، وتفرض عليه الأنشطة والتدريبات نفسها، حيث التعليم ذي المقاس الواحد؛ لذلك كان مصدر المعلومات التي تمثل التغذية الراجعة التي يتلقاها الطالب هو المعلم، وهو ما يمكن تسميته بالتغذية الراجعة الخارجية المتمركزة حول المعلم، وهو ما يمثل الجيل الأول من التغذية الراجعة.
أهم خصائص التغذية الراجعة المتمركزة حول المعلم
- خارجية المصدر: حيث يتلقاها المتعلم من المعلم دون أن يكون له دور في تقديمها.
فهي تمثل الإجراءات التي تحصل خارج إطار الطالب، وغرضها زيادة مستوى الإنجاز من أجل تحقيق الأهداف الموضوعة والمحددة وتطوير الأداء المستقبلي، أو هي المعلومات أو التلميحات التي تتصل بأداء أو سلوك معين، والتي تصدر عن أحد طرفي عملية الاتصال ويلاحظه الطرف الآخر فيتأثر به، أي واردة إليه من مصدر خارجي؛ لتنبئه بنتائج عمله، وتعينه على تعزيزه أو تعديله أو تكراره، وتتطلب التغذية الراجعة هذه معرفة واضحة بنتائج العمل أو السلوك.
- أحادية الاتجاه: حيث يكون التفاعل بين طرفين، يقوم أحدهما بنشاط ما (المتعلم)، ويتلقى توجيهًا من الطرف الثاني (المعلم)، فيقوم الطرف الأول بتعديل سلوكه على النحو الذي أُرشِد إليه.
- ذات طبيعة إجبارية: حيث لا يتحكم بها المتعلم، وتفرض عليه من مصدر خارجي يحكم عليه بمدى صحة أو خطأ ما قام به.
الجيل الثاني من التغذية الراجعة: التغذية الراجعة المتمركزة حول المتعلم
مع انحسار النظرية السلوكية في التعلم، وانتصار مبادئ النظرية البنائية وانتشار مبادئها وافتراضاتها، أصبح من المسلمات التربوية والتعليمية أن التعلم هو الهدف الأساسي للتدريس، ومن ثم فالمتعلم محور العملية التعليمية، وكل متعلم قادر على التعلم، لكنهم يتعلمون بطرق مختلفة.
فالفصل الدراسي يمثل مجتمعًا بين أفراده اختلافات، ويجب تعرف قدرات وميول كل منهم، وأنماط تعلمهم، وتحديد الاختلافات بينهم؛ لتوجيه التدريس لمواءمة هذه الاختلافات، ولا يكفي أن يعرف المعلم تفاصيل تلك الاختلافات، بل يجب الدفع نحو مشاركتهم مشاركة فعالة وإيجابية في وضع أهداف تعلمهم؛ حتى يشتركوا في تقييم أداءهم، ويسهموا في تقديم تغذية راجعة ذاتية لأنفسهم، وهو ما يمكن تلخيصه في تحملهم لمسؤولية تعلمهم.
ويتميز هذا الجيل من التغذية الراجعة بمجموعة من الخصائص، أهمها:
تعزز التعلم الذاتي: تقود التغذية الراجعة، التي يلعب فيها الفرد دورين: دور الممثل، ودور المتفرج والمتأمل، إلى مستوى أعلى من الوعي بالذات، يمكّن من خلق فرص للنمو والتعلم الذاتي لديه.
خفية: فهي معلومات يتلقاها المتعلم عن أدائه عن طريق الحسّ الداخلي بوساطة أجهزة الاستقبال الداخلية له.
تُؤثر في قناعات الفرد مما يسهل عملية التغيير: التغير في سلوك الفرد وأدائه لا يمثل إلا الوجه الظاهر للتغيير الذي يبدأ من التغيرات التي تطرأ على المستوى الذهني للفرد، وتحفيز الفرد ليقدم تغذية راجعة داخلية في الواقع جهد في الاتجاه الذي يقوده إلى ممارسة التأمل والتفكير في سلوكه ومواجهة ذاته، فيتخذ مسافة ناقدة من أجل تعديل تلك الأفعال وتحسينها.
تُعظِّم أثر التجارب الشخصية في التعلم الذاتي للفرد: إن الفرد الذي يحرص دائمًا على التأمل في ممارساته يكون في حالة يقظة دائمة لما يقوم به، إن الفرد الذي يندمج في مواجهة الذات ينتبه لأدق التفاصيل التي تحدث له ومعه، ويجتهد دائمًا في تعديل ممارساته بناءً على تجاربه وخبراته الشخصية.
ذات تصحيح داخلي (ذاتية التقييم): حيث يحكم الفرد نفسه على مدى صحة أو خطأ ما قام به، من خلال خبرته الشخصية، أو من خلال محكات مرجعية للأداء.
ولعل كلمة السر في التغذية الراجعة من الجيل الثاني:
إعطاء الطلاب فرصة لتحمل مسؤولية تعلمهم، بدءًا من المشاركة في تحديد أهداف التعلم، وتقييم فجوتهم التعلمية، وتحديد ما يجب أن يقوموا به لسد تلك الفجوة، حيث تسود مفاهيم مثل: التغذية الراجعة الذاتية، تقييم الأقران، سلالم الأداء، إستراتيجية الخطوة التالية، أهداف التعلم مقابل أهداف الأداء، وغير ذلك مما سيتم شرحها في الكتاب القادم بإذن الله.
انتبه
هذا الجيل من التغذية الراجعة لا يناقض – في مجمله – مفاهيم ومبادئ واستراتيجيات الجيل الأول من التغذية الراجعة، وإنما يكمله وينضجه، ويضمن تحقيق أهداف التغذية الراجعة.
المرجع:
أصلان، أيمن محمد (٢٠٢١). التغذية الراجعة الفعالة نموذج المثلث النابض، الرياض.
كاتب المقال
د.أيمن أصلان
المدير التنفيذي لمركز صناعة القيادات. مستشار وخبير تربوي متخصص في مجال الإشراف التربوي.