…………………………..
في مستشفى مركزي يمكن ليومك أن يكون شبيهاً بعاصفة لاتهدأ، لكن لا بأس مادامت ساقيك معتادة على ركوب العواصف منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها كليّة الطّب وتخلّيت فيها عن حياتك العاديّة في الخارج.
تذهب النّساء لعوالمهنّ الخاصة بالفساتين البيض، ينجبون الأطفال وتعلّمهن الحياة كيف يهدهدن لأولادهنّ بالفطرة ليهدّئن من روعهم.
لكننا هنا نفعل شيئاً آخر، فالمراويل البيض تزفّنا إلى أقدارنا مكلّلين بالتّعب، لكن آه أيّها التّعب الحلو، كيف أصفك بعد خامس مناوبة في الأسبوع..!
في مستشفى مركزي تشدّك أصوات الأطفال في إسعاف الأطفال من “اليد التي توجعك”، فالطّبيبات هنا أمّهات بالفطرة حتّى الشّابات منهنّ واللواتي لم يتزوّجن بعد.
كنت أفحص طفلاً تثرثر أمّه كثيراً وهي تخبرني عن احمرار عينه وشفاهه الحمراء الجافّة، لكنني على أية حال اعتدت ألا أفقد صوابي عندما يتعالى نحيب الأمّهات خوفاً على أطفالهن.
وبرغم أنّي مازلت أؤمن أنّه لا علاقة لجنس الطّبيب بنوع التّخصّص، إلا أنني أرى أن طبّ الأطفال يحتاج إلى فطرة النّساء الأمّهات.
إنّه التّخصص الذي يحتاج لملئ ثقوب شكوك التشاخيص التفريقية بالعاطفة، فهنا مرّات ومرّات كان “قلبي” دليلاً لي سبق نتائج الاستقصاءات.
كنت على وشك مغادرة المستشفى حين التقيت أم عامر وهي أم الطفل الذي تم قبوله في الجناح بسبب إصابته باللوكيميا.
كانت تجلس بطريقة تحطّم القلب وتأخذ من زاوية الممشى مسنداً لظهرها المنحني. قلت لها خالة أم عامر تعالي سأبحث لك عن سرير سيؤلمك ظهرك.
قاطعتني بنغمة صوت معبّدة بالدّموع وهي تحكي لي أن عملها في الأرض لا يحني الظّهر ولكن ما يحنيه هو فقدان الأحبّة.
كانت تبكي ابنها عامر بحرقة تذكّرني بأمّي. تتوسّل إليّ بقلّة حيلة شاكية شحوب ابنها والتّعب والحمّى.
فقرّرت أن أبقى بجانب عامر.. ليل كامل حاولت فيه أن أهدئ من أوجاعه ومن الأعراض الجانبية للجرعة غير أن مضادات الإقياء والمسكّنات لا ترشف من هذا البحر نقطة..
ورغم أن جهازي العصبي بدأ يعلن انهياره والصداع القفوي راح يدقّ رأسي معلناً فقدان قدرتي على التركيز كان شيء من الإنسانية بداخلي يجعلني أخجل من إغماض عيني أمام كل هذه الأوجاع.
حنيت رأسي وأسندته إلى سرير عامر فقد فعلت كلّ ما بوسع طبيب أن يفعله. والآن أستطيع أن أنام ..
نادتني أم عامر بعيون غائرة وراحت تتمتم بصلوات وجدت فيها عزاءً جعلني أشعر أن قلبي يلامس السماء.
مدّت يدها في كيس ملابس عامر وراحت تلفّ الثياب على بعضها. ثمّ ناولتني إياها قائلة يادكتورة ضعي هذه الوسادة تحت رأسك.
لكنّي غفوت وصوت في داخلي يردّد :
” يا خالة إنّ الضّمير المطمئن خير وسادة للرّاحة”
د. مايا معلا
(سماعة حكيم)