د. سمر الزير
بدأت الحادثة التي يرويها الطبيب المصري في كتابه، بقدوم طفل إلى الإسعاف مصاباً بكسور وتهتكات نتيجة حادث. مباشرة قام الأطباء بتخديره كلياً ، ثم نقل الدم إليه، لأنه خسر كمية كبيرة من دمه.
لكن بعد فترة ، أشار أحد الموجودين في غرفة العمليات بهلع إلى كيس جمع البول الموصول بالقسطرة البولية، حيث تلون البول بلون الدم الأحمر. كان ذلك دلالة خطيرة، فالعملية ليست لها علاقة بالجهاز البولي.
هل من الممكن أن يكون السبب هو نقل دم غير متوافقة مع زمرته؟ سارع الأطباء مباشرة بإيقاف تدفق الدم، ثم فحصوا الكيس لتتحقق مخاوفهم ويتضح أن الزمرة المكتوبة على الكيس لا تتوافق مع زمرة دم الصبي، وأن الاسم على الكيس يعود لمريض آخر وليس للصبي.
كانت كارثة بكل المقاييس، بعد أن تلقى الصبي أكثر من 200 مل من دم مخالف لزمرته، فعدم توافق الزمر يسبب حدوث صدمة وانخفاض في ضغط الدم وازدياد في ضربات القلب و تضيق الشعب الهوائية، ثم الفشل الكلوي والوفاة. كل هذا يحدث بمجرد نقل كميات قليلة من الدم، وليس الكمية الكبيرة التي نقُلت للصبي قبل اكتشاف الخطأ .
لكن ذلك لم يحدث. وُضع الصبي تحت المراقبة وأُعطي المحاليل الوريدية ومدرات البول، مع متابعة المعالم الحيوية ووظائف الجسم دورياً. نجا الصبي دون مشاكل ،بما يعتبر معجزة طبية.
كان هناك جانبين للقصة يستلزمان إجراء تحقيق ، هما جانب الإهمال لضمان عدم تكراره وجانب المعجزة لتفسيرها ، ولكن ذلك لم يحدث للأسف.
الجانب الأول هو الإهمال: كيس الدم الخاطئ يعود لمريض سابق أجرى عملية في نفس غرفة العمليات، وقد طُلب له أكياس دم زيادة عن المطلوب، ثم لم يتم إفراغ الغرفة تماماً قبل المريض التالي. صادف مرور أحد الأطباء الذي انتبه أن الكيس باقي من العملية السابقة، فطلب إعادته ومشي في حال سبيله. لم يقم هو بإعادته بنفسه. اختلط هذا الكيس مع الأكياس التي طُلبت للصبي ، ولم يطابق الطبيب المتدرب الذي نقل الدم من معلومات الكيس مع معلومات الصبي، وقد قيل أنه غير اختصاصه بعد ذلك.
الجانب الثاني هو المعجزة الطبية، حيث لم يتضرر الصبي رغم نقل كيس الدم المخالف ، وهذا يشكل أساساً لبحث علمي قد يبحث في أسباب ذلك، فقد حاول أحد الأطباء الموجودين نشر الحالة كتقرير علمي case report, إلا أنه اصطدم بالرفض القاطع، فالله سترنا وأنت تريد أن تفضحنا؟ يكفي أن الأمر مر سلام ولم يمت الصبي
وهكذا بما أن الأمر مر في سلام، فلا داعي لنبحث عن موقع الخطأ لتلافيه في المرات القادمة، ولاداعي لننشرها كحالة علمية قد تأتي بانتقادات جارحة .
هذه العقلية المنتشرة في الدول العربية هي من تمنع التقدم والتطور ، فعند حدوث حادث سير مثلاً، يقولون احمد ربك أنها جاءت بالحديد، (والحمدلله فعلاً)، لكن لا يوجد تقصي في أسباب الحادث لمنع تكراره، وهكذا تتكرر حوادث السير وتحصد الضحايا. في الدول الغربية، يفتح تحقيق في كل حالة أو مشكلة أو خطأ ، وقد يتم وضع قوانين جديدة تسمى باسم الضحية، كناية أن هذا القانون صار بسبب هذا الحادث. لا بل أن أهل الضحايا ينشطون لتغيير قوانين معينة لكي يمنعوا تكرار ما حدث لابنهم أو ابنتهم.
عسى أن نتخلص من المثل الشعبي : هنا حفرنا وهنا طمرنا.
من كتاب (الإكسير : سحر البنج الذي نمزج )، الطبيب الدكتور في كلية الطب جامعة القاهرة أحمد سمير سعد
الدكتورة سمر الزير
(ميددوز)