غزالة البربرية لا أدري هل أنا أحبّ الطائرات أم

…… غزالة البربرية…

لا أدري هل أنا أحبّ الطائرات…أم أنا أكرهُها…
…فأنا عندما كنت أقود طائرةً لأوّل مرة في حياتي ..لم يكن عمري يتجاوز التسع سنوات…!!!
وقد كنت ماهرًا في قيادتها…أحلّق بها كيف أشاء فوق السهول والتلال المجاورة لبيوتنا الطينية المتجاورة في المخيّم …..كما أنني كنت أصنعها بنفسي….!!!
كنت أَشْطُر أعوادَ القصَب وأضعها متصالبةً …على الورق المقوّى وأربطها …ثم أثبّت لها ذيلاً وخيطًا طويلاً….
أمّا عن الرّسوم التي أرسمها على طائرتي…فهي في نظري الٱن غريبة ومضحكة….
فمرة أرسم حقيبة سفر…ومرة أرسم سفينة شراعية …ومرة أرسم طيور حمام ..
والأغرب أني ذات مرة رسمت على طائرتي سمّاعة طبّية…!!!؛
ولا أدري لماذا رسمتها…ربما لأني كنت أرى الأطفال في المخيّم …لا يكادون يغادرون عيادة الدكتور خالد…كنت أراهُ وهو يضع سمّاعته على صدورهم الهزيلة…ثم يبتسم ويكتب لهم شيئاً بهدوء ووقار…
ربما كنت أحلم أن أصبح طبيباً مثله…لست أدري…
ٱه لو كنتُ طبيباً يومها….ٱه
كنت سأضعُ سمّاعتي على أرواحهم المُتعبة …ثم أضعها على ثيابهم الممزّقة ثم على جيوبهم الفارغة…وربّما أضع سمّاعتي على أرجُلِهم الحافية….لم لا ؟!
فأنا كنت صغيراً وكنت أعتقد أن هذه السمّاعة تُسمِعُ الطبيب كل شيء…!!!
……
لنعد الى الطائرات…قبل أن تسيل الدموع الحائرات…!!!
في الحقيقة كانت الطائرة التي أقودها أقوى من أي طائرة في العالم ( المخيّم ) … ولكنها في يوم من الأيام سقطت…!!!
فقد كنت أحلّق بها فوق السّهل القريب عندما اشتبكت مع طائرة معادية !!!
لقد كانت طائرة غزالة البربرية…
غزالة… هذا هو اسمها وبالفعل هي غزالة …لكننا كنّا في الحارة نسميها البربرية لأنها شرسة للغاية…وقاسية الملامح …
وخُصُلات شعرها عصافير سنونو…وعيناها طائرا نورسٍ فوق بحرٍ بعيد …..وخدّاها عصفورا دوريّ فوق سطح دار..
المهم …
في ذلك اليوم اشتبك خيط طائرتي مع خيط طائرة غزالة…وسقطت الطائرتان معا في حقل قمح…
كان القمح المزروع عالي السنابل ..وحين نمشي داخل الحقل لا نكاد نَرى ولا نكاد نُرى…
قالت غزالة…
– اذهب وأحضر طائرتي التي اسقَطْتَها لي ….وإلاّ..؟!!
أنا من الخوف قلت لها….
– سأذهب حاضر…لكن تعالي معي فالقمح عالي الارتفاع …وأخاف ألّا أجِدَها…تعالي ندخلْ بين القمح…لنبحث عنها…
فتحتْ غزالة قبضةَ يدها الرهيبة وباعدتْ بين أصابعها ثم قَبَضَتْها جيّدًا ثم وجّهتْها الى وجهي….ثم لا أدري بعدها ماذا حصل….
قالوا في المشفى
– إنها تشبه ضربة قذيفة هاون…!!
أما في مخفر الشرطة فقالوا
– إن ّهناك أياديَ خارجيةً في الموضوع…
فنحن في الداخل لا نضرب بعضنا هكذا أبداً…!!!؛.
كل ذلك كان لأنهم لم يعرفوا من الفاعل…فقد كانت غزالة هي من أسعفني….قائلة أنها وجدتني هكذا في حقل قمح !!!؟
أنا تفاجأتُ عندما بدأتُ أستعيد وعيي فقد كانت يد غزالة اليمنى تمسك بيدي…فيما كانت يدها اليسرى تمر بين خصلات شعري…
أما عيناها فكانت لهما نظراتٌ أعرفها …نظراتٌ تشبه نظراتِ بعض الحكومات نحو شعوبها…!!!
نظرة واحدة فيها وعود….وتسع وتسعون نظرةً فيها تهديدٌ ووعيد…!!!
بعد قليل اجتمع الأهل والفضوليون وأولاد الحارة…
وكلهم يسألني….
من ضربك ؟؟ من تسبّب لك بهذا الشيء حتى نعرفه ونتصرف معه…
وكانت غزالة أيضا تقول لي أمامهم
– قُل لنا ولا تخف من فعل بك هذا؟! حتى أضربه بقبضتي هذه…
( ثم تفتح قبضتها وتغلقها )
أنا كنت أنظر الى قبضتها حين تفتحها وتغلقها..ً.فألتزم الصمت مثل سائر الضعفاء في الأرض…
المهم…
بعد أن تعافيت لم أعد أخرج لقيادة الطائرة …بل صرت أكره الطائرات كلَّها …لقد عانيت من الطائرات كثيرا….وصرت أخاف من صوتها …ٱه كم أحرقت الطائرات القلوب..وكم فرّقت الأحباب..وكم أزهقت الأحلام …وكم هدمت الذكريات…ٱه
في البيت عكفت أنا على قراءة الكتب والروايات…فالصيف طويل والمدارس لا تزال بعيدة…..
بعد عدة أيام جاء اولاد المخيم الى نافذتي المُطلّة على الزقاق..يطلبون مني الخروج معهم للعب كرة القدم أو لِنُطَيّر الطائرات….فقلت لهم إني مريض ولن اخرج من البيت حتى تأتي المدرسة…
غزالة البربرية ذكيّة…. وقد سمعت من الاولاد أني مريض ولا اخرج من بيتي…فصارت تمرّ كل يوم قرب نافذتي وتختلس النظر….
أنا كنت أختبئ عندما تمرّ غزالة قرب النافذة…او أستلقي على فراشي متمارضا. .
وفي يوم من الأيام…وقفت غزالة ورسمت بأصبعها على زجاج النافذة الذي يكسوه الغبار قلبَ حب وكلمة … ٱسفة
ثم أسرَعَتْ في طريقها…
أنا في اليوم التالي عدت ألعب مع غزالة…
وفيما بعد أصبحنا …..صديقَيْن…صديقين
يعني تقريباً أصبحنا غزالاً وغزالة !!!
ولا زلت أذكر أنه عندما كَبُرَ الأولاد في المخيّم…أنا وغزالة لم نَكبُرْ بَقِينا صغارًا !!!
أقسم لكم أننا بقينا صغارًا نلعب معًا ونمرح معاً …ونَطِيرُ مع عصافير الحقول…ونركض وراء فراشات الزهور…
الى أن فرّقتْنا الجامعة ….فأنا درست الطب وهي درست الطيران…..
وبعد سنوات أصبحت غزالة البربرية ترسل لي بطاقاتٍ بريدية من مدن بعيدة و سعيدة….
وصُوَراً لها في ساحات فرح….ونوافير ماء…. وصوراً لها وهي تجلس وراء مقود طائرة حديثة…!!!.
أما أنا فكِدْتُ أرسلُ لها بطاقاتٍ بريدية لِمُدنٍ حزينة…وصورًا شعاعية لوجوهٍ مقهورة …وتخطيطاً كهربائياً لِقُلوبٍ مكسورة…
وتحاليل مخبريّة…. لفقر دُمٍ
…….بنقص الفَرَح !!!
……
قصة قصيرة بقلم جهاد السالم

(سماعة حكيم)