قهوة سوداء لا أدري لماذا ينتابني ذلك الشعور

قهوة سوداء….
………..
لا أدري لماذا ينتابني ذلك الشعور الغريب … عندما أمشي في المساء
… من الزاهرة القديمة الى دوّار البطّيخة….
شعور غريب وجميل ….
كنت كأني أمشي من سورية الى حدود فلسطين…
أنا كنت في الماضي عندما أدخل المخيم …الشارع الرئيسي …شارع لوبية ..شارع صفد….شارع المدارس… كنت أشعر كأنّني أدخل فلسطين … وامشي في الجليل…وصفد ..ويافا….وتَعبَقُ في أنفي رائحةُ بَحْرٍ …و برتقالٍ….و زعترٍ برّي وَ ليمون…. وأناشيد كثيرة…
ٱه …ٱه…ورائحة دموع قديمة…
…..
قبل أسابيع….
تلك السيدة العظيمة…علياء عمران…
رأيتها بالصدفة وهي واقفة عند دوّار البطّيخة…….كعادتها تضع كوفيّتها على كتفيها….فتبدو كحمامةٍ زاجلة…
هي سيدة جميلة …..غامضة القسمات ..
في شَعرها اختلط النهارُ مع الليل …
أذكر انها كانت تملك مكتبةَ كُتُب في شارعنا… شارع العروبة…
( ولا أدري لماذا أسموه شارع العروبة…!!! )
ها أنا ذا أقترب منها…
وها هي ذي واقفة تنظر الى المباني الكئيبة التي تطلّ على دوّار البطيخة من جهة المخيم….
– كيفك يا سيدة علياء….
– اسفة…لم اعرفك؟؟!
– هذا انا جاركم الدكتور..
– أهلااااً حكيم….كيف حالك
والله ما عرفتك بالاول….
– ولا يهمّك …كيف حال ابو ناصر ؟!
لم تُجبني ولكنها…. أخذت تتأملني
ثم قالت…
– هل تُصدّق ؟! لَمْ أعتقدْ أنك لا تزال على قيد الحياة….
– لماذا ؟! …هل تستكثرين عليّ هذه الحياة البائسة ؟!..
على فكرة… الكوفيّة لا تزال جميلةً عليكِ…
– دَعْكَ منها…هل تصَدّق ؟!
كنت أذكركَ دائما وأقول ….ارجو ان يكون ذلك الطبيب الطيّب قد مات ….الطيّبون يموتون والأوغاد يعيشون…هكذا يقول ذلك الطبيب الكاتب….ما كان اسمه…؟!
– احمد خالد توفيق…
– نعم هُو َ …وقد مات هو أيضا …إنّه أطيب منك…
انتم الأطباء فيكم طيّبون كُثُر…وفيكم غيرُ ذلك…!!!
ادهشتني بذلك القول…
ثم تابعتْ تقول
– ابو ناصر مات …
– الطيّبون يا صديقتي…
– والبيت راح….
– الوطن يا صديقتي…
– والكتب احترقت…
– الأفئدةُ يا صديقتي
– تصوّر….ذهبتُ الى البيت فوجدتُهم قد أخذوا كل شيء…إلا الكتب..
– لا يقرؤون…
ثم قالت باستغراب …
– قل لي ..
أنت ما الذي جاء بك الى هنا…؟!
– لا أدري… ربّما الصدفة…وربّما سوء حظّي …لا أدري
ضحكت وهي تقول…
– أنا لا أؤمن بالصدفة…أنا أؤمن بالقدر
– وأنا أؤمن بالكوفيّة حين تكون على كتفيكِ….
– دعك من الكوفيّة…الا تزال تقرأ وتكتب ؟!
– أحياناً….وأنت ماذا تفعلين هنا ؟!
– أنا كل يوم جمعة ٱتي الى هنا وأقف … أنظر الى المخيّم عدة نظرات وأعبّ من الهواء الراقد هناك… ثم أعود الى بيتي المستأجر في مساكن برزة..
– كل هذه المسافة ؟! أليست بعيدة عليكِ.؟!
– نعم…مسافة بعيدة أبعد من فلسطين…!!!
– دعينا من السياسة أرجوك…انا ذاهب… ( بخاطرك…)
– تعال…تعال لا تخفْ …. الخوف هو لعنة العُمر …
فتحتْ حقيبتها…وأخرجتْ كوزَ ذُرة ملفوفاً في ورقة كتاب… وقسمته نصفين….أعطتني نصفا…ثم
أخرجت ملحاً من ورقة كتاب أخرى ووضعت قليلا على النصف الٱخر….وبدأت تأكل…
قالت…
– اذا أتيتَ الى هنا في الجمعة القادمة سأعطيكَ كوز ذُرة كاملاً….وربّما أُحضر معي قهوة سوداء….
قلت لها….وأنا أتذوّق الذُرة
– سٱتي… سٱتي اذا لم يصبني فألُك السيّء…أنا أحبّ الذرة المسلوقة….ثم تعالي هنا…
لماذا لم تضعي لي ملحاً ؟!
قالت…
– انا اذكر انك كنت تعاني من خنّاق الصدر….الملح لا يناسبك…
– غريب …قبل قليل كنت تتمنين لي الموت…
– هناك فرق يا صديقي….
بين من يتمنّى لك الموت ….وبين من يتسبّبُ لكَ بِهِ….
– .ولكن الموت واحد…يا سيدتي
قلتُ ذلك وأنا أجرّ خطاي مبتعدا…
سمعتُ صوتها وأنا أبتعد…
– لا تنسَ يا صديقي…
انت طيّبٌ جدّا
…….
عندما عدتُ الى البيت … تعبتُ وأنا أسأل نفسي …هل أنا وغدٌ…أم أنا طيّب ……..هل انا حيّ ويجب ان أموت…أم أنا ميت ويجب أن أعيش …ماذا أفعل ؟!
ماذا أفعل لترضى ذات الكوفية عنّي ….؟!
هل أذهب للقائها…أم لا أذهب ؟؟
لست أدري…
……
في الموعد….
عند دوّار البطّيخة…
ذهبتُ ووقفتُ بعيدا….
ها أنا ذا أنظر اليها وهي تقف…وتنتظر
….إنها تَعْقِد كوفِيُّتها على كتفيها …
القلق بادٍ بشدة على مُحيّاها….
الناس يمرّون غيرَ ٱبِهِينَ لحزنِ عينيها….
ها هي ترفع رأسها وتنظر للشارع الذي أجيء منه …لا تكاد تشيح بنظرها عنه…
ها هي تعيد النظر في ساعتها …مرارا وتكرارا
– الى متى ستنتظرين يا ذات الكوفية…؟!
…اذهبي هيّا…أنا لن ٱتي…
اذهبي لن يأتي أحد…
صدّقيني لن يأتي أحد…
مضى وقتٌ شاحب … قبل أن
أراها تُخرِج منديلاً من حقيبتها…
وتمسح عينيها….
ثم تصعد في سرفيس مساكن برزة…
أنا الٱن وغدٌ كبير….!!!
قصة قصيرة بقلم د. جهاد السالم

(سماعة حكيم)