«كواعبُ من غيمٍ» لـ منير خلف.. العيش في الماضي والتطلّع إلى حاضر بذاكرة!
نجوى صليبه
«هلمّ إليكَ
وخذ باقة القلب
حصّتك الذّهبية
من قلق قادم
سوف يأتي كعادته دون إذن
ويفتح كوّة غيبٍ
تعيد تجددنا نحونا
دون أيّ جديد
دون أي كلام يُرى
أو يقود سفينة قرباننا
لحياة تجيء بريداً من الفقد
في نقط المنتهى»..
يقول الشّاعر منير خلف في قصيدته «نقطة لم تنتهِ»، مخاطباً صديقه الشّاعر جميل داري، ومختتماً بها مجموعته الشّعرية الصّادرة هذا العام عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب «كواعب من غيم»… مجموعة لم يكتب لها الفرح، إذ فجع الشّاعر برحيل شقيقيه على التّوالي خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشّهرين، وكأنّما الأحزان المكتوبة تجذب الفاجعات الواقعية لتضيف للقصيدة مصيبة الموت المجمّل بكلمات منمّقة ومختارة بعناية خلافاً لقساوتها والصّدمات والدّموع التي تسفكها فنخبئها خجلاً وإظهاراً للتّماسك أمام الأهل الذين يحتاجون قوّتنا.
في هذه المجموعة يفسح خلف الطّريق كاملاً أمام حزن الماضي والحاضر والآتي، مسخّراً قاموس الفجائع من كلمات ومصطلحات وصور، وداخلاً مملكة حزنه من أبواب خمسة، باب لم يعرف له اسماً، أمّا البقية فكانت بعناوين عريضة ينقط الألم منها كحنفية ماء معطوبة تدقّ مساميرها في القلب قبل الرّأس، الأوّل منها خصصه لرثاء أصدقاء وأقارب وعنونه «في مدار الرّاحلين»، ومن رثائه لوالدته نختار:
أقول تجيئين بعد قليل،
وبعد كثير أمدّ نظري
على قدر هذا الغياب
الذي لا يموت
وفي رثائه لشقيقته عزيزة التي حالت الحرب على سورية دون وصوله إليها، ينثر بضع كلمات دافئة حيّة وكأنّه وجد أنّ الشّعر لن يفي بالغرض، يقول في تمهيد القصيدة: إلى عزيزة التي قطفت لي في ربيع ما من عمر قريتنا «شاغر بازار» عصفوراً أصفر قبل رحيلها بأربعين جناحاً ثم ينشد حزنه شعراً:
أختاه بي وجع
ولستُ أظنّه
إلّا ليخنق مهجتي
ورجائي
أختاه
لولا هذه الحرب المقيتة
لاخترقت
مسالك الجوزاء
وقطعت
كلّ حدود هذه الأرض
وضممت كل صغارك
انتظروا..
فأنتم حصتي
في زحمة الأهواء
وفي هذا المدار تظهر شخصية «خلف» المخلصة الوفية لأصدقاء في الفن والأدب والحياة رحلوا عن هذه الحياة وتركوا مكانهم شاغراً، يقول في رثاء صديقه الشّاعر السّوري عيسى عزيز إسماعيل الذي خاض حربه الخاصّة مع المرض أيضاً وفارق الحياة في عام 2019:
بفقدك يا صاحبي
سوف تبكي القصيدة أبناءها
من جديد
وتعلن في أسود الحزن
عجز الجبال على الانحناء
لجبلة في اللاذقية
تأتي العصافير
خائفة من دون خوف
لتقرئ أعشاشها
من تراب لذكراك
ذاكرة للتّراب
ودمعاً بحجم الرثاء
وتحت عنوان «لونك لن يراق» يرسم لوحته الخاصّة ويلونها بألوان الحزن والغياب والفقد، مودّعاً الفنان التّشكيلي عمر حسيب أحد روّاد الفنّ التّشكيلي في الحسكة، ويخطّ في قصيدة أخرى حروفيته للتّشكيلي والخطّاط الرّاحل خلف الحسيني.
أمّا الباب الثّالث، فهو قصيدتان يقف فيهما عند مآثر الأم والمعلم ودورهما في الحياة وتنشئة الأجيال، ويعود في الباب الرّابع والأخير «قصائد مزمّلة بالأنين» إلى تعاطف وتضامن مع أبناء الأصدقاء في مرضهم ومع الأصدقاء في غيابهم، وكأنّه يستبق الفاجعة والأقدار، فنقرأ ما كتبه لصديقه الفنان التّشكيلي «مورازو جاجان»:
من يعرف هذا الفنان؟
من يعرف ذاك المتكور
في ذات الوردة
في كهف الليل؟
من يقدر أن يمسك الخيط الأخضر
عن نحلة ريشته الصّفراء الأجفان؟
من يضبط إيقاع اللوحة في شفة الفجر الناعس؟
أمّا «في انتظار شموعها الخضراء» فيغرّد خلف في سماء أخرى ويحطّ في آفاق مختلفة، فنراه مباشراً في الحب حيناً، ومناوراً حيناً آخر، فلا نعرف إن كان يقول عشقاً لأنثى محددة.. لحبيبة، أَمْ لأرض سكنته، أَمْ لأمٍّ مدّت يديها مراراً لكي تحفظهن أم أخريات متخيلات، أو ربّما يهيم في عشق منتظر لا يعرف عنه شيئاً بعد، يقول:
هي الغيمة الخضراء..
قلبي لبوسها
تهيج لي الذّكرى فتسمو نفوسها
سترقى
لكي تُلقى الغيابات كلّها
بجبّ الليالي
أو تباد فؤوسها
ومن قصيدة «رحلة في هاء الغياب» نقتبس:
كم لحظةً
في العمر نخسر سرّها
إن لم نعشها
في خضم الحنين؟
كم من ليالٍ
لم نمرّ ببعضنا
والعمر ـ بعض دقائق ـ
يغريني
وإن كان يعيش
العيش في الماضي خيار عند البعض وإجبار عند البعض الآخر، أمّا عند الشّاعر منير خلف فهو بين الحالتين، يعيش في الماضي ويتطلّع إلى منقذ يمدّ اليد ويخرجه من بئر الوجع ليعود إلى غياب محفوف بالذّكرى، يقول في قصيدة «تسبيحة يد لا تنام»:
من ذا يوقظني من الماضي
لأفرش في يد الآتي
تسابيح اللقاء
وحظوة الـ«نحن»
الذين نسير نحو غيابنا
المحفوف بالذكرى
تقع المجموعة في مئة وثمان وستين صفحة تغلّفها لوحة للفنان رحيمو، ويستهلّها الشّاعر بإهداءٍ لا يقلّ إحساساً أو شعراً عن بقية القصائد، يقول:
إليّ: وحيداً..
كي أزمّل غربتي
وأنصب في شوقٍ
لنجواك خيمتي
إليكِ:
ربيعاً في خضمّ ارتدائها
ذوات المعاني مهجةً إثر مهجةٍ
إليها.. لياليّ اللواتي ولدنني
ضميراً بوادي الغيب
أيقظ رؤيتي
صحيفة تشرين