……
تلك الغجرية الحسناء ( سوريكا مورالي ) ذات الثوب المزركش والقَسمات الحزينة…انتم لا تعرفونها…
هي تقف على الرصيف تحت عيادتي وتمسك بيدها ما يشبه القيثارة…
كان صوتها الشجي يجمع المارّة …فتغنّي لهم تلك الأغنية الحزينة…….
أعْطِني نصفَ رغيفْ
أعطني نصفَ وَطَنْ
خيمةً فوق الرصيفْ
أو ذِراعَيْنِ…كَفَنْ
وعندما كانت تصل في غنائها الى ( أو ذراعين كفن )…اقسم لكم..كان بعض الناس تنهمر دموعهم ….
وفي يوم من الايام ..انا لم أتمالك نفسي…أبكتني فغضبتُ وقلت للممرضة…
انزلي وقولي لسوريكا مورالي هذه …أن تخفضَ صوتَها أو لترحلْ من هنا…….
الحقيقة ان ما أغضبني من سوريكا ان صوتها كان يذكرني بشيء قديم اسمه صوتي…
انا أذكر أني رميت صوتي في بئر قديمة…ونسيته هناك..
واذا خرج… سأمسكه من رقبته وأرمي به ثانيةً في بئر أخرى…
المهم …
صعدت سوريكا الى العيادة وهي تصيح…
– أين هو هذا الدكتور ؟! …
هيه انت هل يزعجكَ صوتي…؟!
قلت لها..
– ليس الأمر هكذا يا سوريكا…ما يزعجني هو صوتي أنا….
– لا يهمّني صوتك…أنا يهمّني ان يبقى صوتي أعلى من حنجرتي…
– طيب اهدئي قليلا…لم الغضب
طلبت لها كاس ماء فأخذتْه ووضعتْه على المكتب …لم تشرب…
قدّمت لها كرسياً…فلم تجلس..
بقيت واقفة..
تبسّمتُ أنا لها…كشّرتْ هي لي…!!!
سألتها…وأنا أكتم غيظي…
– مِنْ أين انتِ يا سوريكا…؟!!
اقتربتْ مني وحدّقت في عينيّ بشراسة وقالت. .
– لا أدري….أمي تقول أنني من هنغاريا من بُدابِست…وأبي يقول أنني من جهنّم…انت ما رأيك ؟!
شعرتُ بشيء من الخوف
ولكني قلت لها…
– ربّما أبوكِ على حق..
قالت….
– جهنم جهنم لا يهمّ…لكنْ اعلمْ أنّي لا أخفض صوتي لأحد…أما اذا أردتَني أن أرحل فسأرحل…
نحن غَجَر ونرحل كل يوم…
ما المشكلة ؟!
ومشت بثوبها المزركش نحو الباب….
انا سبقتُها ….ووقفت لها على الباب…
– ليس هكذا الغضب يا سوريكا…
صوتك يعجبني ولكنه يحزنني…
هيّا هيّا أمسكي هذه الالة اللعينة وغنّي لي شيئاً..
رفَعَتْ كتفيها للأعلى وأَنزلتْهُما.. (علامةَ رفض) وقالت…
– أنا لا اغنّي لمن يظلمني…ولا لمن يجعلني أغضب…. هيّا اعتذِر منّي…راضِني …كُن مهذّباً أمام فتاةٍ من الغَجَر..
-انا اسف يا سوريكا…
رفعت كتفيها…
– لا يكفي…لا زلت غاضبة منك…
– ٱسف يا سيدتي اسف…ٱااااسف
أخيرا جلست سوريكا وقالت…
– حسنا أنا رضيت ولكن بقي شيء واحد يجب ان تفعله ؟!
– ماذا يا سوريكا ؟! الأطبّاء صَبْرُهم ينفدُ بسرعة…قولي. ..هيّا
قالت…
– أنا لا أغنّي لمن لا ينظر في عينيّ …هذا طلبٌ سهلٌ أليس كذلك…؟!
وأشارت الى عينيها…
( انا بيني وبينكم خفت أن تطلب مالاً أو شيئا صعباً…)
أسرعتُ وقلت لها…
– في حياتي كلّها يا سوريكا لم يطلب أحدٌ منّي أسهل من هذا الطلَب ولا أجمل منه…
اقتربتُ بعينيّ من عينيها…
قالت اقترب اكثر
ها أنا أقترب وكاني اقترب لأنظر في عينيّ مجهر ضوئي…
– هيا يا سوريكا غنّي…أنا أنظر
قالت
– سأغنّي لك عن اخي…
– ما به اخوكِ…؟!
– ستعرف من الأغنية ولكن انظر جيدا في عينيّ…
غنّت سوريكا….أغنية حزينة :
عندما أخفوكَ عنّي …
في بُدابستَ القديمه
لم يكن نصرًا عظيماً
أو بدابستُ عظيمه…
وبينما كانت تغنّي كنت أنا أنظر في عينيها….العميقتين…
رأيت بُدابست .. …حرب..فوضى…يتامى ..أرامل…لاجئون …أسرى..
ورأيت ايفان مورالي شقيق سوريكا….جاثيا على ركبتيه…في قبو مظلم …في مكان ما…
غنّت سوريكا تلك الاغنية ثم نزلت مسرعةً والحزن في عينيها مدينة ….
فيما بعد…
أصبحتُ أنا وسوريكا صديقين…
واصبحتُ كل مساء أرسل لها نصف فنجان قهوة…فتترشّفُه ثم تنظرُ الى نافذتي وتلوّح لي مبتسمة شاكرة…
أمّا اذا أمسَكَتْ حنجرتها بأصبعَيْ إبهامها والسبّابة …فأرسل لها على الفور نصف كأس ماء…
….
المهم…
يومًا بعد يوم …أصبح المارة يحبّون سوريكا يجتمعون حولها ..يغنون معها…يحزنون معها..يبكون.. واحيانا يهتفون…غاضبين !!!
لقد أيقظت سوريكا في الناس حفنة من مشاعر بعيدة….مشاعر لم يكونوا يعرفونها…من قبل…
……
وفي ذات يوم حزين…
ساد هدوء شديد في الشارع…تحت عيادتي…
الهدوء الشديد والصخَب الشديد أنا لا أحبّهما….
سألت عنها…فقال الناس… رَحَلتْ….
وقالت نجمةٌ …رُحِّلتْ…
وأقسمت عصفورة…
أنّها رأتها جالسةً أمام مُحَقّق…!!!
……
مضت السنوات سريعاً….وتبدّلت أحوال البلد…فصرت أتذكر سوريكا مورالي…كثيراً
وصرت عندما أنظر من النافذة الى الرصيف..أتذكر كلمات سوريكا….
وأغنّي :
أعطني نصف رغيفْ
أعطني نصف وطنْ
خيمةً فوق الرصيفْ
أو ذراعينِ .. كَفَنْ
……..
قصة قصيرة بقلم دكتور جهاد السالم